كلمة سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد، في الجلسة الافتتاحية في مؤتمر تيك وادي السنوي 2020 في السيليكون فالي بمدينة سان فرانسيسكو
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا، شريف، وشكرا لمنظمة تيك وادي على استضافتنا في هذا المؤتمر.
أعلم أنه للوهلة الأولى، قد يبدو أننا نأتي من عالمين مختلفين. فعالمي مرتبط بالخدمة العامة والدبلوماسية والجيش. أما عالمكم، فيدور حول التكنولوجيا والابتكار والأعمال. آلاف الأميال ومحيط شاسع يفصلون بين هذا المنبر ووطني.
ومع ذلك، فإن ارتباط "السيليكون فالي" مع العالم العربي أمر طبيعي، لأنه، في النهاية، لطالما كان مهد الابتكار، فنحن من طور علوم الجبر الحديثة، ومن ابتكر الخوارزميات والأرقام العربية، ولكن يبدو أن "السيليكون فالي" احتاج فقط إلى الصفر والواحد لتغيير العالم!
أنتم تدركون جيدا دون أن أخبركم أن التكنولوجيا قد غيرت العالم كما نعرفه. ونعلم أن التحولات يمكن أن تولد المخاوف، وبالتأكيد، كان هذا هو الحال مع التكنولوجيا.
وسواء أكان ذلك نتيجة عواقب غير مقصودة، أو غياب الضوابط، أو الاستغلال المتعمد، فإن قطاعكم يمر الآن في أزمة، فأنتم تتعاملون مع خسارة ثقة الجمهور وتواجهون أسئلة صعبة.
في بلدي الأردن، لدينا بعض الخبرات في التغلب على الأزمات واتخاذ القرارات الصعبة. لقد واجهنا أزمة مالية وحالة عدم استقرار في المنطقة، ونتيجة للصراعات التي تحيط بنا، تدفق إلينا عدد هائل من اللاجئين. واليوم، يعد الأردن أحد أكبر مستضيفي اللاجئين في العالم.
لقد اخترنا أن نفتح حدودنا. هل كان ذلك قرارا اقتصاديا سليما؟ بالطبع لا، فقد ارتفعت المديونية والبطالة، وشعرنا بالضغوطات على قطاعات الإسكان والغذاء والطاقة والرعاية الصحية والتعليم، ولكننا اخترنا ذلك لسبب بسيط للغاية: لأنه الفعل الصائب. فبالنسبة للبعض، السياسة تتعلق بالسلطة، أما بالنسبة لنا، فهي تتعلق بالإنسانية.
وكذلك الأمر بالنسبة للتكنولوجيا، ففي الواقع، إن التكنولوجيا ترتبط بالإنسانية على المستوى الشخصي. قد تكون ابتكاراتكم غير ملموسة في أغلب الأحيان، ولكن تأثيرها على حياتنا ملموس بشكل كبير، وهذا لا ينطبق فقط على حياتنا اليومية، بل إنها تشكل منظورنا الشخصي وضميرنا الجماعي. أنتم تؤثرون على تفاعل الناس مع بعضهم البعض وعلى مشاعرهم تجاه الآخرين. فمن بين كل القطاعات، لديكم التأثير الأكبر على المجتمع.
إذن، عليكم أن تسألوا أنفسكم: ماذا سيحدث إذا كانت الصناعة التي تشكل مستقبل الإنسانية لا تضع الإنسانية على رأس أولوياتها؟ هذا ليس سؤالا يمكن تجاهله. لذا، علينا أن نضع الإنسانية في صلب التقدم التكنولوجي، وأن نتابع تأثير التكنولوجيا على المجتمع، وأن نحرص على أن يرتبط تحقيق الربح بتعميم الفائدة.
فلتكن الإنسانية هي التوجه التالي الذي تركز عليه التكنولوجيا، فهو القرار الصائب والذكي. واليوم، كما تعلمون جيدا، فإن الموظفين يريدون أكثر من مجرد راتب، والمستهلكين يريدون أكثر من مجرد منتج آخر. جميعهم يريدون غاية وهدفا.
لذا، من واجب قطاع التكنولوجيا، الارتقاء بالقيم الأخلاقية التي تجمعنا. لا تقلقوا، أنا لست حالما، ولا أؤمن بالحلول الجاهزة، كما أعلم أنه لا توجد طريقة واحدة للقيام بذلك؛ إذ ليست هناك قائمة إجراءات واضحة أو عملية يمكن التنبؤ بها، أو قواعد معينة علينا اتباعها.
في الواقع، ومن خلال خبرتي القصيرة، تعلمت أن تغيير القواعد والقوانين هو في كثير من الأحيان الجزء السهل، وأن تغيير طريقة التفكير هو التحدي، لكنه ممكن عندما تجتمع العقول العظيمة، كتلك المجتمعة هنا، وتقرر أن تجعل ذلك أولوية.
ولكنكم أولا بحاجة إلى الشركاء المناسبين، مثل بلدي، الأردن. إليكم مقترحي.
دعوني أبدأ بتجاوز الصورة النمطية عن الأردن: الأردن بلد آمن ومضياف. وبإمكان إخواني وأخواتي الأردنيين الحاضرين هنا أن يشهدوا بذلك، بل بإمكانكم أن تزورونا لتطلعوا على ذلك بأنفسكم.
وفي كثير من الأحيان، تطغى صراعات منطقتنا على قصة الأردن، ففي الشرق الأوسط تجد بعض أسوأ الأزمات الإنسانية التي شهدها التاريخ الحديث، ولطالما كان تحقيق السلام صعب المنال، فلا أحد يدرك ذلك أكثر من عائلتي؛ إذ أن جدي، الملك الحسين، أمضى حياته، حتى آخر أيامه، يعمل من أجل السلام، وإن والدي الملك عبدالله الثاني، يواصل الكفاح، بقيادة شجاعة وحنكة دبلوماسية، من أجل تحقيق سلام عادل وشامل. فكما قال مؤخرا، هو الطريق الأصعب ولكنه الأسمى.
على شعبنا أن يتصور مستقبلا مختلفا، مستقبلا أفضل. فهو ليس مرهونا بما مضى، بل بما هو ممكن، لا سيما شبابنا. فلدينا ثاني أكبر نسبة من الشباب في العالم من حيث عدد السكان، كما أن نسبة عدد السكان في سن العمل وصلت الآن إلى أعلى مستوياتها، وستستمر كذلك للعشرين عاما القادمة. إنها فترة واعدة للغاية لمنطقتنا.
إن القوى العاملة من شبابنا الموهوب متعطشة إلى العمل في مجال التكنولوجيا. ففي الأردن وحده، 22 في المائة من خريجي الجامعات قد تخصصوا في مجال الهندسة أو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ومن خلال الشراكة معنا ومع العالم العربي، ستساعدوننا في تدريب الشباب العربي على صناعات المستقبل، ولكن لكم أيضا في هذا مكاسب؛ إذ يحتاج "السيليكون فالي" إلى المبرمجين والمهندسين. وإن المبرمجين والمهندسين العرب بحاجة إلى وظائف.
إذن، فإن الحل لكلتا المشكلتين واضح، ولهذا السبب، يعمل العديد من عمالقة قطاع التكنولوجيا على توسعة وجودهم في العالم العربي، وبالتالي ضمان الوصول إلى أسواق جديدة غير مستغلة.
واليوم، تدير شركتا أمازون ومايكروسوفت أعمالا إقليمية من الأردن، كما أن المملكة العربية السعودية تعمل على بناء بيئة حيوية للشركات الناشئة، وتعمل مصر بالشراكة مع شركة آي بي إم على التحول الرقمي.
ولكن، وفوق كل ذلك، إن الشراكة مع منطقتنا يمكنها أن تحقق المزيد.
فلننظر إلى الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، فقد رأينا جميعا العناوين الإخبارية، التي تتحدث عن استخدام البيانات، لتعكس لنا التعصب وأسوأ الطباع البشرية. والحل لا يكمن ببساطة في ابتكار مجموعة بيانات أكثر تنوعا، بل في بناء فريق متنوع بالفعل.
ولننظر إلى مجال معالجة اللغات الطبيعية، فاللغة العربية هي الخامسة عالميا من حيث الناطقين بها، والرابعة من حيث الاستخدام على الإنترنت، ولكن لكي تفهم أجهزة الحاسوب اللغة العربية، فهي بحاجة إلى أشخاص يتقنونها، وإن شابات وشباب الوطن العربي تواقون للمساعدة، ليس في تيسير التواصل فحسب، بل في تعزيز التفاهم أيضا.
معا نستطيع أن نساعد الناس على فهم بعضهم البعض والتواصل فيما بينهم؛ إذ قال تعالى في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". صدق الله العظيم.
واجب علينا أن نتعارف، لأن التقدم الحقيقي لا يمكن أن يحدث من دون البشر، ولن يتسنى للبشرية أن تتقدم إلى الأمام إلا عندما نجد سبلا جديدة للعمل معا، ونحن قادرون على ذلك، فنحن نملك الشجاعة والجرأة المطلوبتين لابتكار أي مستقبل نختاره.
شكرا لكم